الخميس، 25 نوفمبر 2010


مقدمة (فِخاخ) أحمد الكعبي مقدمة عابرة.. أم بيان شعري مقتضب؟
عبدالستار ابراهيم



(1)
اذا كانت قصيدة النثر لدى البعض – وقل الأغلبية- محض تراكمات لغوية تهويمية تفتقر الى الغائية، فهي لدى البعض الآخر، كائن حروفي نابض بالحياة والجمالية.. له منظومته اللغوية، والاشارية، والدلالية. وهي (القصيدة) قارة تعبيرية شاسعة وخصبة، تستأهل المغامرة بغية الوصول لتخومها، او ضفافها الأقرب على اقل تقدير.
تَفرُد قصيدة النثر في تصورنا، يكمن في تحررها من الأنساق التدوينية التي سبقتها -بنسبة ما- فهي تكاد تكتفي بايقاعها الداخلي حسب، كما هو معروف، واعتمادها على ما تبثه صورها من لقطات تحفز ملكة التأويل في ذهنية المتلقي، الذي بات منتجاً ثانياً للنص.. كما ذهبت لذلك قراءات رولان بارت وسواه. لقد امست قصيدة النثر عند البعض : (محض تركيبات لغوية لاتعير لمتطلبات القصيدة إهتماما، إذ تقتقر إلى المضمون المعبر. في قصيدة النثر اصبح الشعراء يبحثون عن الجُمل التي تثير الأعجاب بغض النظر عما تريد ان تعبر عنه، على حد تعبير الشاعر ?لمخضرم الفريد سمعان.
بالطبع، لاضير من التجريد، فمن رحمه تخرج الأجنة الجديدة. بيد اننا لسنا مع التهويم الذي يخلو من المعنى. نحن مع الوضوح المعمق في آن وليس مع الطروحات المنغلقة على ذاتها، فأمر كهذا يجعلنا كمتلقين اشبه برهط عميان يتعثرون خلال متاهة!
: ترى ، كيف تعامل شعراؤنا الشباب مع قصيدة النثر التي هي آخر بصمة في نتاجات الراهن الشعري؟ ثمة من إستسهل فكرة التعامل معها -وهم الأكثرية- إذ سرعان ما خدعته بساطتها الظاهرة.. انها تبدو-لمن لايمتلكون الفطنة- محض جُمل سيالة، وعبارات تعقبها عبارات قد لاتنتهي عند حد! بيد ان بعضا آخر من ذوي النظرة الثاقبة والموهبة الاكيدة، لم تنطل علية تلك البساطة، وادرك مبكرا ان وراء الأكمة ماوراءها. فغابة الشعر الغامضة لايخترق شعابها إلا الأكفاء من ذوي الذهنية المتفتحة، والفطنة العارفة باسرار اللغة والبلاغة.. وبمختلف فنون القول?والتعبير.
الواقع: ان المبدعين الحق هم قلة دائما. هذه حقيقة ينبغي الاعتراف بها، فلقد باتت من المُسلمات اصلا. ان الذين يسعون جادين –من جمهرة الشعراء المحتشدين حولنا –للتجاوز والمغايرة والابتكار، قد لايتجاوزون اصابع اليدين! وهذه القلة التي يحلو للبعض ان يصفها بـ(الهائلة) تعكس قصائدهم بجلاء إنتمائهم الحقيقي للحياة وانحيازهم للأنسان المحكوم بالأمل.. المتشبث بوجوده رغم كل المحن والمكابدات القدرية. لعل ولادة شعراء جيل الثمنينيات أبان سطوة الحكم الشمولي وابصارهم النور في ظل الحروب والحصارات القاسية.. ومن ثم تميزهم وابداعم ا?شعر الذي مجّد اشراقة الحياة رغم ضباب الفجائع، يُخطئ مقولة بابلو نيرودا : (الشاعر يولد من السلام، كما يولد الخبز من الدقيق) فها هي أعوادهم إستقامت وقويت، ونَُضجت قرائحهم قأبدعت جميل الشعر واعذبه.
من جانب آخر، لاشك أن الغالبية من الشعراء الطليعيين من الأجيال الثلاثة الأخيرة، قرؤوا بيت الشاعر (الحطيئة) الشهير:
الشعر صعب طويل سلمه
لايرتقيه الذي لايعلمه
وقليلهم من جعل يحسب لتنمية موهبته حسابا، متمثلاً نصيحة الحطيئة الحصيفة.. الموهبة التي تحتاج الى تثقيف طويل وتشذيب غير متردد للشوائب والعوالق التي تلتصق في وجدان الشاعر الشاب في بواكيره، عبر قراءات رديئة وكتابات هي في واقع الحال، محض سفاسف كفيلة بتشوية اللغة والذائقة، لقد اصاب ذلك الشاعر الغربي كبد التشخيص الموضوغي قبل قرون عدة.. فَسُلم الشعر الذي وصف، هو طويل حقا وصعب وشائك المنعطفات.
ولعل من الانصاف القول هنا، ان قصيدة النثر الراهنة، تحلق الآن في مجالها الحيوي من اجل بلوغ ذرى الابداع وصيرورته، على يد مجموعة من الشعراء الموهوبين، امثال: مروان عادل، حسام السراي، احمد عبدالسادة، نصير فليح، عمر السراي، احمد عبدالمحسين.. وسواهم. اذ باتت الاسماء المشار اليها تشكل أصواتا تميزت بالوعي والموهبة –من بين عشرات من الاسماء المضللة- وقبل كل شيء، لها إيمانها الواضح بجدوى الشعر، على رغم كل ما يُقال بأفول نجمه وإنحسار موجه!
(2)
(نثر القصيدة) حلم الكتابة في فضاء الحرية.
ان انتاج كتابة شعرية له قاموسه الخاص ولغته المبتكرة، قد يستوجب إقترانها بما اطلق عليه النقاد بفعل (تفجير اللغة) كتابة تتجاوز –او هي تحاول صادقة- الا شكال المألوفة التي فُرغت من محتواها وبليت أدواتها..
ولا تتخبط في ضباب التجريد وسفاسف التصورات والعبارات الجوفاء، وقبل كل شيء، تدرك ماهيتها ومقدار طاقتها التعبيرية، مما يستوجب عدم تحميل تلك الماهية أكثر مما تحتمل، ولا يغيب عن الذهن ان التحولات اللاحقة التي طرأت على الشعر بمختلف انماطه وانساقه كثيرة وشبه حاسمة.. لذا بات على الفرسان الجدد مهمة إفراز معطيات جديدة من مُجمل جهودهم.. معطيات تُثري الحاضنة الشعرية بالرموز والإيحاءات واللغة المترعةبالعذوبة والجمال.. وإلا ماهو وجه الجدة عدا ذلك؟
على رغم ما وصلت اليه قصيدة النثر وما فتحته من آفاق، فأن ثمة من يطمح الى تجاوزها (وهي التي لم تقف على قدميها بَعدُ) وهي التي ما إنفكت بين مد وجزر، وداخل حلبة نقاش وسجالات لم ترس على بر حتى الآن. نقصد بذلك الشاعر (احمد عبدالزهرة الكعبي) الذي إستوقفنا نصه المعنون (فِخاخ) ومقدمته الوجيزة (ينظر ملحق ادب وثقافة/ جريدة الصباح العدد 1486 في 10/9/2009) المقدمة تشير الى ان (فِخاخ) الكعبي نص ينتمي لـ(نثر القصيدة) وليس الى (قصيدة النثر)! التي استهلكت نفسها أو تكاد.. بل هي لاتنتمي لأي نوع آخر. الشاعر يؤكد انه غير معني ?يضا بالتقيد بالانساق الشعرية، او حتى بفضاءات (النص المفتوح) وكل ما يبغي تقديمه هو (الجمال)، اذاً نحن إزاء مبادرة فنية غايتها الاتيان بجديد.. قد يفتح نافذة لجنس شعري يكون له شأو في قابل الايام.
و (نثر القصيدة) عند احمد الكعبي، هو كتابة تفكك القصيدة لتحولها نثرا.. لتبتعد عن اي مسمى وتنأى عن جميع المقاسات والمقاربات. المقدمة تذكر: ليس من الضروري ان نوضح نوع ما نكتب، ولكن هنا اشارة الى نوع ادبي ربما يكون ما بعد قصيدة النثر والنص المفتوح..ان نثر القصيدة لا يراعي حتى الخوف من الخروج من السياق (كما هو الحال في النص المفتوح).
هي خروج عارم على كل شيء، والاتجاه نحو كتابة لا تراعي إلا تقديم الجمال. ويستطرد الشاعر بتوسيع ديباجة التقديم/ الإيضاح: نثر القصيدة، لايمكن ان يكون إكتشافا او بدعة، بل هو نتاج يخرج ليثبت الجمال الذي يراه الكاتب مناسباً ولايهمه عامل الزمن او العامل المكاني.. الشاعر هنا يكتب القصيدة ثم يعود لتكملة إنجازه باضافة النثر اللازم ليبتعد عن العوائق التي لا تسمح له الانواع الاخرى بالتحرك بحرية، واعني التخلص من كل القيود التي لطالما عانى الشاعر الحديث منها.. لا يهمني هنا وجود أيِّ، وهي نقطة للانطلاق من قصيدة النثر الى ?ثر القصيدة، ولترحل ابعد من عوالم النص المفتوح الذي يتقيد ببعض القيود
وكان جميلا الاشارة/ الاعتراف، إلا ان المقدمة/ الايضاح، ليس اعلانا عن نهاية تأريخ القصيدة، بل هي تكملة لمشوار طويل اسمه: الكتابة، بكلمة اخرى: ان الجديد لايعني دائما إلغاء القديم او كما سبقه، بل هو اضافة اخرى.. خطوة جديدة تضاف لمسيرة الالف ميل. لنقترب من (فِخاخ) الشاعر –وان كان ذلك بتحفظ- ونقرأ..
(اهداني عود ثقاب/ تخرج من بين عيون إيثاكا محاولات للنيل من الصبر والانتظار/ تخرج من بين حروفي جنائز القلوب التي راق لها الاندثار/ تخرج قبور داحس والغبراء مطلية بشتى انواع الصمت/ جناح الفينيق الذي احمل في متحف الإلكترون/ والزواحف التي خلفها القادمون من رحلة البحث عن الذات تدور حوله/ مات القيصر الذي باع لـ رفيقه اسرار البلاد بطعنة/ وانهمر الدم من ضحايا شايلوك.
(3)
يا قصائدي
يا نثري
يا قصصي
بل يا وحدتي! كيف تتحول الكلمات الى كلب مسعور ينبش في عتمة الهاربين؟ أنّى لهذا الوجوم ان يكون ابدا؟ مللت هذا المقهى الرث المسمى (شمس الاصيل سأحمل قنديلي حتى وسادتي (ابو العلاء ليس المثل ولا في جعبته المُثلُ) سأضعه اعلى سريري شمسا تشاركني الوحشة.
(4)
جسر تحت قدميّ.. كان جمادا وليلا ولصوصا من قبل، اما الآن تحت قدمي لا تندهه الشمس إن نادم الأقمار الثقيلة الخطى/ جسر أبله حفظ كل الكلام وتحول بفعل البارود، حديقة يَرومُها شعراء النثر والناقصون والتافهون الثوار!
أحب النثر كثيرا (ايها الهيكل)
لذا كلما وجدت حرفا على الرصيف مسحت عن وجهه التراب وغسلته بدموع مالحة،احملها مذ عرفتُ ان العابرين نسوا العودة! جسر تحت قدمي، وفوق النهر تطفو الهياكل.
لقد سعت سطور (فِخاخ) نحو ملامسة الحدوس الشعرية بمهارة واضحة مما يعني نزوعها للجدة الممتزجة، او توفر النية الخالصة لإمتلاك نسخ المعرفة والتعامل معه بفاعلية وحيوية. بداهة : (يمكن اعتبار الشعر في ذاته وسيلة للمعرفة، فهو كشف و إستجلاء لما هو منفلت فيما وراء العالم، أو مكبوت في اللاوعي،او مقيم في الظل منزو عن الضوء. ان الشعر معرفة تبحث داخل الكهف لتنير الآفاق الجوهرية في غوره، والكهف في النهاية يكتسب دلالة ترميزية فهو نهاية التأويل، مسكن الكائن الحقيقي في العالم، حسب الناقد المغربي عبدالعزيز بومسهولي.
نحسب ان مارمى اليه الشاعر الكعبي في النص اعلاه، هو الانحياز الى روح المغامرة التي اشرنا اليها، والتماهي مع تجربته، والتوق للأتيان بما هو جديد..وذلك بداهة حق مشروع وفق مبدأ حرية التعبير والاختيار. انه يحرضنا على قراءة نصه بأمعان ووعي نقدي، كيما نعرف مدى ماوصل اليه قارب الشاعر (فيما وراء قصيدة النثر) بيد اننا نرى، ان النص محل قراءتنا هذه، يبقى بحاجة الى شيء من الطراوة والوضوح.. بمعنى، ليست ثمة مثلبة إذا ما نحى النص –ايما نص- الى شيء من الاشراق، وعدم التكيس دائما بشرنقة الغموض او الافراط بالترميز. لانبغي ان ن?لسف النص الذي بين ايدينا، بيد اننا نشير حسب الى انه يستحق القراءة المتمعنة، مشفوعة بأهتمام جدي بطروحات الشاعر الكعبي.. كونه إمتلك فضيلة جرأة التوجس في ارض ملغومة، محتشدة بالتأويل.. في وقت كاد فيه سواه، ان يُغرقونا بالتسطيح والزيف. فالشاعر عنده، كما نتصور، مقترنا بالوعي. هو يراه (الشعر) يمتلك زمام المبادأة والمبادرة لاكتشاف اقانيم بكر تصلح لحرث (المخيال الشعري) وإنبات بذوره. ان تجربة (احمد الكعبي) لافتة وهي تستأهل الاشادة بها على رغم ما يعتور النص من (غموض مسرف) في بعض مقاطعه.
يبقى أمامنا سؤال بشقين: هل يعي شاعر قصيدة النثر (أو نثر القصيدة- كما هو الحال مع احمد عبدالزهرة الكعبي) انه يجوس في حقل الغام كلما حلت لحظة الكتابة الشعرية الحقيقية، تأسيساً على مقولة ادونيس (الكتابة الشعرية لغم)؟ نعتقد ذلك.
الشق الثاني من السؤوال: هل يمكن (بشكل ما) إعتبار مقدمة الكعبي الواردة في مستهل نصه (فِخاخ) مقدمة عابرة، ام هي بمثابة (بيان شعري) مقتضب اُعلنَ بأيجاز شديد وعلى استحياء؟
حقاً.. يبقى الشعر غواية كبرى!

ليست هناك تعليقات: